تاريخ فلكلور الجزيرة
لا تخلو حفلات الأعراس والختان في جزيرة قرقنة التونسية من تنشيط الفرق الفلكلورية المحلية التي تجاوزت شهرتها حدود البلاد، وهي تعكس تراث الجزيرة وتاريخها ومسيرتها الفنية المتميزة.
وتحمل هذه الفرق في نفوس الأهالي دلالات بالغة الرمزية، وهو ما دفع بمكونات المجتمع المدني في الجزيرة -التي تبعد 33 كلم عن سواحل صفاقس- قبل أسبوعين إلى التوجه بعدد منها إلى العاصمة، وتنظيم استعراض فني احتجاجا على التدخل الأمني العنيف في قرقنة.
وقبل المشاركة في المناسبات العائلية والتظاهرات الثقافية داخل وخارج الجزيرة، يفتح حكيم السويسي (46 عاما) حقيبة تحرص زوجته على حفظها في أماكن آمنة بالبيت خوفا على ما تحتويه.
يمسك بيديه بعض الملابس وآلة عزف تقليدية، ويقول بافتخار "الآن أستطيع قيادة الفرقة، هذا القميص يميزني عن البقية بعد ارتدائه تحت القبعة الصفراء كي يكتمل الزي الذي يبرز خصوصية الفرق الفلكلورية في قرقنة".
طابع خاص
ويروي السويسي الذي يترأس فرقة "فلكلور الجزيرة"، أنه واحد من عشرات العازفين الذين تلقوا تكوينا لا يخضع لأي قواعد أكاديمية، ليضيف "قبل 28 عاما كنت أرافق عمي أثناء تنشيط حفلات الأعراس لترتيب وجمع آلات العزف والإيقاع، وقررت أن أكون أحد أفراد هذه الفرقة".
السويسي: أغاني الفلكلور تترجم روعة الطبيعة في جزيرة قرقنة (الجزيرة)
ويتذكر السويسي أن تكوينه للتمكن من العزف على "الزكرة"، كما يحب الأهالي تسميتها، لم يستغرق سوى شهرين تحت إشراف الفنان علي وردة الذي يعتبر من أشهر الفنانين في قرقنة. لكنه فور بلوغه سن العشرين أوحت له طموحاته بأن يتوقف عن العزف وراء معلمه ويؤسس فرقة خاصة به.
ويشير الفنان إلى أن جميع الفرق التي تأسست قبل أعوام ما زالت تنشد الأغاني القديمة، موضحا أن لهذه الأغاني طابعا خاصا من خلال كلماتها التي تتغزل بجمال المرأة وتترجم روعة الطبيعة في الجزيرة.
ويضيف "هذه الميزات جعلت تراثنا الفني من أشهر الفنون الفلكلورية في العالم، فإيقاع أغانينا يدفع بالجميع للرقص، حتى الأجانب الذين لا يفهمون اللغة العربية".
وتتكون كل فرقة من أربعة أعضاء وقائد يتميز بقميص حامل لقطعتي قماش في اليدين لإبرازهما أثناء الرقص وحث المتفرجين على مشاركته حركاته.
ويرى أهالي قرقنة أن الصراع مع الطبيعة وخصوصية السكن في الجزر أفرزا هذا الفن الفلكلوري ودفعا إلى إبداع شعري حوّله الفنانون المحليون إلى أغانٍ.
البحث عن البهجة
وعن هذه النقطة يروي شيوخ الجزيرة أن السكان كانوا يعيشون قبل حكم الدولة العثمانية في بيئة شبه معزولة حرمتهم من الاختلاط مع الآخرين، مما دفعهم إلى التركيز على العمل البحري صباحا والبحث عن مظاهر الابتهاج أثناء السهر في الليل، ووجدوا ذلك في الشعر والغناء. وكانت هذه العوامل دافعا لصقل موهبة عدد من سكان القرية الذين أصبحوا من أبرز شعراء وفناني تونس.
قائد الفرقة يبرز قطعتي قماش أثناء الرقص لحث المتفرجين على مشاركته حركاته (الجزيرة)
وكان تمثيل تونس في التظاهرات الثقافية العالمية والمعارض المروجة للسياحة من أهم العوامل التي ساهمت في التعريف بهذه الفرق، مما دفع بعدد من البلدان على غرار الصين لإدراجها ضمن برامج تبادلها الثقافي مع البلدان العربية.
ويحكي أهالي الجزيرة أن الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة كان أحد العاشقين لهذا النوع من الفن، ويتذكرون أن بورقيبة أمر البنك المركزي باعتماد ورقات نقدية تحمل صور إحدى فرقهم الفلكلورية تكريما لمساهمتهم في إثراء المشهد الثقافي بعد الاستعمار الفرنسي.
ويفيد الباحث في الموسيقى العربية محمد الليلي في حديثه للجزيرة نت بأن هؤلاء كانوا النواة الأولى للفلكلور في تونس، مؤكدا أن فنهم ارتقى بعد عقود من الشهرة إلى بحوث ألهمت طلبة معاهد الموسيقى.
وترفض الفرق الفلكلورية في قرقنة إدخال بعض الآلات الجديدة لتطوير فنّها من قبل الباحثين في المجال الموسيقي، حيث تتمسك بأهمية المحافظة على النمط الموروث ذاته وعدم استعمال أي معدات إلكترونية.
ولأنهم يورثون فنهم لأبنائهم، لا يخشى المشرفون على هذه الفرق انقراض أغانيهم ولوحاتهم الراقصة، كما تحرص وزارة الثقافة على توثيق تراثهم وتسجله في أرشيف معهد الموسيقى العربية المتوسطية.
المصدر : الجزيرة معزّ الجماعي-جزيرة قرقنة (تونس)